تنظيم وسائط الوصول للمعرفة
التاريخ
2010-09-04التاريخ الهجرى
14310925المؤلف
الخلاصة
مهنا الحبيل وسنقف على قضية مهمة جدًّا في فلسفة الفتوى، وهي تقعيد المذاهب، وتنظيم مراتب النظر، وتدريب الساحة العلمية ومناقشاتها، فإن حالة اعتماد العالم ومنزلته وتخصصه تَمّر بمرحلة دقيقة من النقاش والحوار، وتعلّم أدب الخلاف، وتزكية النفس وتحذيرها من روح الاستعلاء الشخصي والعلمي. هذا لشخصيات الفتوى وأدواتها، وهو أيضًا للساحة العامة والجمهور لتنظم المصادر وفقًا لسياقات علمية تُشاع في ساحة المعرفة للوصول إلى معرفة الحكم، أو العلة، أو الفلسفة التشريعية بأدوات فكرية منضبطة، تستقر في الضمير الجمعي للأمة، ولكن وطوال هذه الفترة وحتى مع حدوث خروقات، فقد ورثت الأمة معيارًا صارمًا لرفض الإلزام، أو الرابط السياسي، أو القامع الأمني حين كان التداول مرهونًا بساحتها، ولا يُحسب عليها الاختراقات المتأخرة، إنما نحن نتحدث عن أصل فلسفة التنظيم للوعي بالعلم الشرعي ومصادره لدى النخبة العلمية، وحركة التشريع التاريخية المستقلة، ولذلك أُعتبر موقف الإمام مالك -رضي الله عنه- من رفض إلزام الأمة باجتهاده محل إجماع، وكأنه نصٌ شرعيٌّ لأن الأمة فهمت من أصل المصدر دقة تطابق موقف معارضة الإمام مالك لإجبار الناس على موطّئه من السلطة السياسية كمنهج رفض للإلزام والاحتواء، أو المصادرة السياسية للساحة الشرعية كقاعدة متمثلة أصلاً بتقريرات الشارع لعصمة الكتاب والسنّة، وتعظيم العقل الاستنباطي، وحكمة فلسفة الحياة مع التشريع العدلي الرباني. ولكون أن صدر الأمة السلفي نظّم ذاتيًّا هذه الساحة إلاّ أن خشية الأجيال بعدهم من فوضى الاقتحام على مدارات الاجتهاد دون أن يُحصّل طالب العلم أدواتها الشرعية والعقلية والخلقية جعلتها تتضافر ضمنيًّا وتتوحّد على مدارات المنهجية العلمية الشرعية التي سُمّيت بمدرسة التقليد والتمذهب. ولقد كان سوء الفهم المتأخر لمنهجية التمذهب التاريخية عند أهل السنة سببًا مضارًا من الجانبين: الجانب الأول هو من رفضها باعتبارها تَحوْل دون الكتاب والسنّة، وهو فهمٌ قاصرٌ إذ إنّ مصادر الاستنباط إنما تدور حول النص لا خرقه، وهذه قصة طويلة لسنا بصدد تفصيلها، لكن ما يعنينا هو أنّ آثار الحملة الضخمة التي شُنت على المذهبية السنية أثّرت في شارع التدين العام، وكانت أصلاً في اضطراب حركة تحصيل العلوم الشرعية المنضبطة واختراقها، وبالتالي القفز بالفتوى إلى مدارات فوضى مع ضعف جانب التزكية الذاتية، وتواضع طالب العلم ونظره في أقوال المتقدمين، لماذا قطعوا بشذوذ هذه الفتوى؟ ولماذا رفضوا تلك لكونه قد توقر في نفسه انتقاص العلماء وازدراء هذه المنهجية التي انتمى إليها ملايين الفقهاء وطلبة العلم، وترقوا في مدارجها بصورة منضبطة، وإن وقع لبعضهم خلل هنا أو هناك لكن إسقاط هذه المرجعية العلمية الشرعية أثّر كثيرًا على الساحة الإسلامية فضلاً عن المعارك التي شنت والميزانيات التي رصدت لحربها. أمّا الجانب الثاني فهو عدم معرفة أو تقدير بعض أتباع هذه المنهجية وخصومهم كذلك من أنّ هذه المنهجية هي تنظيم دقيق للوصول لدقة الفتوى لتطورات الزمن واحتياجاته، ومنها تدريب السائر بعد تحصيل المتون الأولية للوصول إلى الترجيح بين الأدلة وبين الأقوال؛ ولذلك وفي ذات هذه المذاهب السنية هناك مدارج وأصول دُونت نصًّا وعُلّمت كبرنامج تُصنّف المُقلّد المطلق عن المقلد الباحث عن مجتهد المسألة عن مجتهد المذهب عن القول خارج قول الإمام الأساسي، واعتبار ذلك القول ضمن دائرة أقوال المذهب، فضلاً عن ما يرد أو يستجد من مسائل حديثة أو قضايا تعود للمقاصد لمعرفة تقرير الحكم الشرعي أو توجيهه فيها، إذ إنّ من الخطأ أن تتحول المذاهب إلى قوالب مصمتة لا حراك فيها سوى نقل أقوال المتقدمين وهم المتأخرون أصلاً في تراتيب الطبقات والتهميش عليها والتحشية وهكذا، والمذاهب أيضًا ليست جزرًا معزولة تتكتل على مذهبيتها إنما هي في أصل فلسفتها مدارس حيوية تنفتح ضمن أصول وضوابط تُنظّم الوصول لمعرفة الحكم، وثقافة التشريع بأجمل وسائط النظر والتعبير. ولذا ومن خلال قراءتي للبيان الملكي الكريم، فإني لم أفهم منه إقرار قوانين لمطاردة المفتين، أو قمعهم، أو حصرهم في زوايا محددة، وإنما محاولة لتنظيم الفتوى حيث قال البيان نرغب إليكم، وهي مسارات دقيقة تحتاج إلى تأنٍ وبُعد نظر من الجهة المكلفة ليتطابق التوجيه مع أصل فلسفة تداول الفتوى، وحرية الاستنباط الشرعي حسب أصول أهل السُنّة والتي هي في ذاتها أحد روافد تعزيز ثقافة الحضارة الإسلامية وتعدديتها المنضبطة، وهو شعار لايزال خادم الحرمين الشريفين -رعاه الله- ينادي بتوسيعه وتأصيله في ثقافتنا الوطنية.
الرابط
تنظيم وسائط الوصول للمعرفةالمصدر-الناشر
صحيفة المدينةرقم التسجيلة
635904النوع
مقالرقم الاصدار - العدد
17300المؤلف
مهنا الحبيلتاريخ النشر
20100904الدول - الاماكن
السعوديةالرياض - السعودية